فصل: ذكر قتل زكريا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر من ملك من قومه بعد الاسكندر:

لما مات الاسكندر عُرض الملك على ابنه الإسكندروس، فأبى واختار العبادة، فملكت اليونان فيما قيل بطلميوس بن لاغوس، وكان ملكه ثمانياً وثلاثين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس فيلوذفوس، وكان ملكه أربعين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس أوراغاطس أربعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس فيلافطر إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوش افيفانس اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس الاخشندر إحدى عشرة سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس الذي اختفى عن ملكه ثماني سنين، ثمّ ملكت بعده قالو بطرى سبع عشرة سنة، وكانت من الحكماء؛ وهؤلاء كلّهم من اليونان، وكلّ من كان بعد الإسكندر كان يدعى بطلميوس كما كانت تدعى ملوك الفرس أكاسرة وملوك الروم قياصرة.
وقد ذكر بعض العلماء أنّ بطلميوس صاحب المجسطي وغيره من الكتب لم يكن من هؤلاء الملوك، وإنّما كان أيّام ملوك الروم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثمّ ملك الشام فيما بعد قالوبطرى ملوك الروم، فكان أوّل من ملك منهم جايوس يولوس خمس سنين، ثمّ ملك بعده أغسطوس ستّاً وخسمين سنة، فلمّا مضى من ملكه اثنتان وأربعون سنة وُلد عيسى بن مريم، عليه السلام، وقيل: كان بين مولده وقيام الإسكندر ثلاثمائة وثلاث سنين.

.ذكر أخبار ملوك الفرس بعد الاسكندر وهم ملوك الطوائف:

لما مات الإسكندر ملك بلاد الفرس بعده ملوك الطوائف، وقد تقدّم ذكر السبب في تمليكهم، وقيل: كان السبب في ذلك أنّ الإسكندر لما ملك بلاد الفرس ووصل إلى ما أراد كتب إلى أرسطاطاليس الحكيم: إنّي قد وترت جميع من في بلاد المشرق وقد خشيت أن يتّفقوا بعدي على قصد بلادنا وإيذاء قومنا، وقد هممتُ أن أقتل أولاد من قتلت من الملوك وألحقهم بآبائهم، فما ترى؟.
فكتب إليه: إنّك إن قتلت أبناء الملوك أفضى الملك إلى السفل والأنذال، والسّفل إذا ملكوا قذروا وإذا قدروا طغوا وبغوا وظلموا، وما يخشى من معرّتهم أكثر، والرأي أن تجمع أبناء الملوك فتملّك كلّ واحد منهم بلداً واحداً وكورة واحدة، فإنّ كلّ واحد منهم يقوم في وجه الآخر يمنعه عن بلوغ غرضه خوفاً على ما بيده فتتولّد العداوة بينهم فيشتغل بعضهم ببعض فلا يتفرّغون إلى من بعد عنهم.
فعندها قسّم الإسكندر بلاد المشرق على ملوك الطوائف ونقل عن بلدانهم النجوم والحكمة، وكان من حالهم بعد الإسكندر ما ذكره أرسطاطاليس، واشتغلوا عن قصد اليونان.
وكان أرسطاطاليس من أفضل الحكماء وأعلمهم، وكان الإسكندر يصدر عن رأيه، وأخذ الحكمة عن أفلاطون تلميذ سقراط، وسقراط تلميذ أوسيلاوس في الطبيعيات دون غيرها، ومعناه رأس السباع، وكان أوسيلاوس تلميذ انكساغورس، إلاّ أن أرسطاطاليس خالف أستاذه في عدّة مسائل، فلمّا قيل له في ذلك قال: أفلاطون صديق والحقّ صديق، إلاّ أنّ الحقّ أولى بالصداقة منه.
وقد اختلف العلماء في الملك الذي كان بسواد العراق بعد الاسكندر وعدد ملوك الطوائف الذين ملكوا إقليم بابل، فقال هشام بن الكلبيّ وغيره: ملك بعد الاسكندر بلاقس سلبقس، ثمّ أنطيخس، وهو الذي بنى مدينة أنطاكية، وكان في أيدي هؤلاء الملوك سواد الكوفة أربعاً وخمسين سنة، وكانوا يتطرّقون الجبال وناحية الأهواز وفارس.

.ذكر ملك أشك بن أشكان:

ثمّ خرج رجل يقال له أشك، وهو من ولد دارا الأكبر، وكان مولده ومنشأه بالريّ، فجمع جمعاً كبيراً وسار يريد أنطيخس، وزحف إليه أنطيخس والتقيا ببلاد الموصل، فقتل أنطيخس وملك أشك السواد وصار بيده من الموصل إلى الريّ أصبهان، وعظّمته سائر ملوك الطوائف لسنّه وشرفه وفعله، وبدأوا به كتبهم، وسمّوه ملكاً من غير أن يعزل أحداً منهم، ثمّ ملك بعده ابنه سابور بن أشك.

.ذكر ملك جوذرز:

ثم ملك بعد سابور جودرز بن أشكان، وهو الذي غزا بني اسرائيل في المرّة الثانية.
وسبب تسليط اللّه إيّاه عليهم قتلهم يحيى بن زكريّاء، فأكثر القتل فيهم، فلم يعد لهم جماعة كجماعتهم الأولى، ورفع الله منهم النبوة ونزل بهم الذّلّ، وقيل: إنّ الذي غزا بني إسرائيل طيطوس بن اسفيانوس ملك الروم، فقتلهم وسباهم وخرّب بيت المقدس، وقد كانت الروم غزت بلاد فارس يطلبون ثأر أنطيخس، وملك بابل حينئذٍ بلاش أبو أردوان الذي قتله أردشير بن بابك، فكتب بلاش إلى ملوك الطوائف يعلمهم ما أجمعت عليه الروم من غزو بلادهم وما حشدوا وجمعوا وأنّه إن عجز عنهم ظفروا بهم جميعاً.
فوجّه كلّ ملك من ملوك الطوائف إلى بلاش من الرجال والسلاح والمال بقدر قوّته، فاجتمع عنده أربعمائة ألف رجل، فولّى عليهم صاحب الحضر، وكان له ما بين السواد والجزيرة، فلقي الروم وقتل ملكهم واستباح عسكرهم، وذلك الذي هيّج الروم على بناء القسطنطينيّة ونقل الملك من رومية إليها، وكان الذي أنشأها قسطنطين الملك، وهو أوّل من تنصّر من ملوك الرّوم وأجلى من بقي من بني اسرائيل عن فلسطين والشام لقتلهم عيسى بزعمهم، وأخذ الخشبة التي يزعمون أنّهم صلبوا المسيح عليها، فظّمها الروم وأدخلوها خزائنهم وهي عندهم إلى اليوم، ولم يزل مُلك فارس متفرّقاً حتى ملك أردشير بن بابك، ولم يبيّن هشام مدّة ملكهم.
وقال غيره من أهل العلم بأخبار فارس: ملك بلادهم بعد الإسكندر ملوك من غير الفرس كانوا يطيعون كلّ من ملك بلاد الجبل، وهم الأشغانيّون الذين يُدعون ملوك الطوائف، وكان ملكهم مائتي سنة، وقيل: كان ملكهم ثلاثمائة وأربعين سنة، ملك من هذه السنين أشك بن أشكان عشرين سنة، ثمّ ابنه سابور ستين سنة، وفي إحدى وأربعين سنة من ملكه ظهر المسيح عيسى بن مريم، عليه السلام، وإنّ تيطوس بن اسفيانوس ملك رومية غزا بيت المقدس بعد ارتفاع المسيح بنحو من أربعين سنة فملك المدينة وقتل وسبى وأخرب المدينة، ثمّ ملك جودرز بن أشغانان الأكبر عشر سنين، ثمّ ملك بيرن الأشغانيّ أربعين سنة ثم ملك هرمز الأشغاني سبع عشرة سنة، ثمّ ملك أردوان الأشغانيّ اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك كسرى الأشغانيّ أربعين سنة ثمّ ملك بلاش الأشغاني أربعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك أردوان الأصغر ثلاث عشرة سنة، ثمّ ملك أردشير بن بابك.
وقال بعضهم: ملك بلاد الفرس بعد الإسكندر ملوك الطوائف الذين فرّق الإسكندر المملكة بينهم، وتفرّد بكلّ ناحية من ملك عليها من حين ملّكه عليها ما خلا السواد، فإنّّ كان أربعاً وخسمين سنة بعد هلاك الإسكندر في يد الروم، وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل الملوك قد ملك الجبال وأصبهان، ثمّ غلب ولده بعد ذلك على السواد، وكانوا ملوكاً عليها، وعلى الماهات والجبال، وأصبهان كالرئيس على سائر ملوك الطوائف، لأنّ العادة جرت بتقديمه وتقديم ولده، ولذلك قُصد لذكرهم في كتب سير الملوك، فاقتصرنا على ذكرهم دون غيرهم، فكانت مدة ملوك الطوائف مائتّي سنة وستين سنة، وقيل: ثلاثمائة وأربعاً وأربعين سنة، وقيل: خمسمائة وثلاثاً وعشرين سنة، والله أعلم.
فمن الملوك الذين ملكوا الجبال ثم تهيأت بعد أولادهم الغلبة على السواد أشك بن جزه، وهو من ولد إسفنديار بن بشتاسب في قول، وبعض الفرس زعم أنّ أشك بن دارا، قال بعضهم: أشك بن أشكان الكبير، هو من ولد كيكاووس، وكان ملكه عشرين سنة، ثمّ ملك بعده أشك ابنه إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك ابنه سابور ثلاثين سنة، ثمّ ملك ابنه جودرز عشر سنين، ثمّ ملك ابنه بيرن إحدى وعشرين سنة، ثم ملك ابنه جودرز الأصغر تسع عشرة سنة، ثم ابنه نرسي أربعين سنة، ثم هرمز بن بلاش بن أشكان سبع عشرة سنة، ثمّ أردوان الأكبر بن أشكان اثنتي عشرة سنة، ثمّ كسرى ابن أشكان أربعين سنة، ثم أردوان الأصغر بن بلاش ثلاث عشرة سنة، وكان أعظم ملوك الأشكانيّة وأظهرهم وأعزّهم قهراً للملوك، ثمّ ملك أردشير بن بابك وجمع مملكة الفرس على ما نذكره إن شاء الله.
وقد عدّ بعضهم في أسماء الملوك غير ما ذكرنا لا حاجة إلى الإطالة بذكره، وقد ذكرنا بعض ما قيل عند ملك أردشير بن بابك.

.ذكر الأحداث أيام ملوك الطوائف:

.فمن ذلك ذكر المسيح عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهم السلام:

إنّما جمعنا هذين الأمرين العظيمين في هذه الترجمة لتعلّق أحدهما بالآخر، فنقول: كان عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود، وكان آل ماثان رؤوس بني اسرائيل وأحبارهم، وكان متزوجاً بحنة بنت فاقوراء، وكان زكريّاء بن برخيا متزوّجاً بأختها إيشاع، وقيل: كانت إيشاع أخت مريم بنت عمران، وكانت حنّة قد كبرت وعجزت ولم تلد ولداً، فبينما هي في ظلّ شجرة أبصرت طائراً يزقّ فرخاً له فاشتهت الولد فدعت الله أن يهب لها ولداً، ونذرت إن يرزقها ولداً أن تجعله من سدنة بيت المقدس وخدمه، فحرّرت ما في بطنها، ولم تعلم ما هو، وكان النذر المحرّر عندهم أن يجعل للكنيسة يقوم بخدمتها ولا يبرح منها حتى يبلغ الحلم، فإذا بلغ خُيّر، فإن أحبّ أن يقيم فيها أقام، وإن أحبّ أن يذهب ذهب حيث شاء، ولم يكن يحرر إلاّ الغلمان، لأن الإناث لا يصلحن لذلك لما يصيبهنّ من الحيض والأذى.
ثمّ هلك عمران وحنّة حامل بمريم، فلمّا وضعتها إذا هي أنثى فقالت عند ذلك: {ربّ إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى} آل عمران: 36 في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها، {وإني سميّتها مريم} وهي بلغتهم العبادة، ثمّ لفّتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون، وهم يلون من بيت المقدس ما يلي بنو شيبة من الكعبة، فقالت: دونكم هذه المنذورة، فتنافسوا فيها لأنها بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال زكريّاء: أنا أحقّ بها لأنّ خالتها عندي، فقالوا: لكنّا نقترع عليها، فألقوا أقلامهم في نهر جار، قيل هو نهر الأدن، فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، فارتفع قلمُ زكريّاء فوق الماء ورسبت أقلامهم، فأخذها وكفلها وضمّها إلى خالتها أمّ يحيى واسترضع لها حتى كبرت، فبنى لها غرفة في المسجد لا يُرقى إليها إلا بسلّم ولا يصعد إليها غيره، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فيقول: أنّى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله، فلمّا رأى زكريّاء ذلك منها دعا الله تعالى ورجا الولد حيث رأى فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، فقال: إنّ الذي فعل هذا بمريم قادر على أن يصلح زوجتي حتى تلد، ف {قال ربّ هب لي من لدنك ذرّيّةً طيبةً إنّك سميع الدعاء} آل عمران: 38.
فبينما هو يصلّي في المذبح الذي لهم إذا هو برجل شابّ، هو جبرائيل، ففزغ زكريّاء منه، فقال له: {إن الله يبشرك بيحيى مصدّقاً بكلمة من الله} آل عمران: 39، يعني عيسى بن مريم، عليه السلام، ويحيى أوهل من آمن بعيسى وصدّقه، وذلك أنّ أمّه كانت حاملاً به فاستقبلت مريم وهي حامل بعيسى فقالت لها: يا مريم أحامل أنتِ؟ فقالت: لماذا تسأليني؟ قالت: إنّي أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذلك تصديقه.
وقيل: صدّق المسيح، عليه السلام، وله ثلاث سنين، وسمّاه الله تعالى يحيى ولم يكن قبله من تسمّى هذا الاسم، قال الله تعالى: {لم نجعل له من قبل سميّاً} مريم: 7، وقال تعالى: {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً} مريم: 15، قيل: أوحش ما يكون ابن آدم في هذه الأيام الثلاثة، فسلّمه الله تعالى من وحشتها، وإنّما ولد يحيى قبل المسيح بثلاث سنين، وقيل بستّة أشهر، وكان لا يأتي النساء، ولا يلعب مع الصبيان.
{قال ربّ أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر} آل عمران: 40 وكان عمره اثنتين وتسعين سنة، وقيل: مائة وعشرين سنة، وكانت امرأته ابنة ثمان وتسعين سنة، فقيل له: {كذلك الله يفعل ما يشاء} وإنما قال ذلك استخباراً هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم غيرها، لا إنكاراً لقدرة الله تعالى، {قال ربّ اجعل لي آيةً قال آيتك ألا تكلّم الناس ثلاثة أيّامٍ إلاّ رمزاً} آل عمران: 41، قال: أمسك الله لسانه عقوبة لسؤاله الآية، والرمز الإشارة.
فلمّا ولد رآه أبوه حسن الصورة، قليل الشعر، قصير الأصابع، مقرون الحاجبين، دقيق الصوت، قويّاً في طاعة الله مذ كان صبيّاً، قال الله تعالى: {وآتيناه الحكم صبيّاً} قيل: إنه قال له يوماً الصبيان أمثاله: يا يحيى اذهب بنا نلعب، فقال لهم: ما للعب خُلقت، وكان يأكل العشب وأوراق الشجر، وقيل: كان يأكل خبز الشعير، ومرّ به إبليس ومعه رغيف شعير فقال: أنت تزعم أنك زاهد وقد ادخرت رغيف شعير؟ فقال يحيى: يا ملعون هو القوت، فقال إبليس: إنّ الأقلّ من القوت يكفي لمن يموت، فأوحى الله إليه: اعقل ما يقول لك.
ونبّئ صغيراً فكان يدعو الناس إلى عبادة الله، ولبس الشعر، فلم يكن له دينار ولا درهم ولا مسكن يسكن إليه، أينما جنّه الليل أقام، ولم يكن له عبد ولا أمَة، واجتهد في العبادة، فنظر يوماً إلى بدنه وقد نحل فبكى، فأوحى الله إليه: يا يحيى أتبكي لما نحل من جسمك؟ وعزّتي وجلالي لو اطلعت في النار اطلاعة لتدرّعت الحديد عوض الشعر فبكى حتى أكلت الدموع لحم خدّيه وبدت أضراسه للناظرين، فبلغ ذلك أمه فدخلت عليه وأقبل زكرياء ومعه الأحبار فقال: يا بنيّ ما يدعوك إلى هذا؟ قال: أنت أمرتني بذلك حيث قلت: إنّ بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلا الباكون من خشية الله، فقال: فابكِ واجتهد إذن، فصنعت له أمه قطعتي لبد على خدّيه تواريان أضراسه، فكان يبكي حتى يبلّهما، وكان زكريّاء إذا أراد يعظ أن الناس نظر فإن كان يحيى حاضراً لم يذكر جنّة ولا ناراً.
وبعث الله عيسى رسولاً نسخ بعض أحكام التوراة، فكان ممّا نسخ أنه حرّم نكاح بنت الأخ، وكان لملكهم، واسمه هيرودس، بنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها، فنهاه يحيّى عنها، وكان لها كلّ يوم حاجة يقضيها لها، فلما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا سألك الملك ما حاجتك فقولي أن تذبح يحيى بن زكرياء، فلمّا دخلت عليه وسألها ما حاجتك قالت: أريد أن تذبح يحيى بن زكرياء، فقال: اسألي غير هذا، قالت: ما أسألك غيره، فلمّا أبت دعا بيحيى ودعا بطست فذبحه، فلما رأت الرأس قالت: اليوم قرّت عيني فصعدت إلى سطح قصرها فسقطت منه إلى الأرض ولها كلاب ضارية تحته، فوثبت الكلاب عليها فأكلتها وهي تنظر، وكان آخر ما أُكل منها عيناها لتعتبر، فلمّا قتل بذرت قطرة من دمه على الأرض، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بخت نصّر عليهم، فجاءته امرأة فدلته على ذلك الدم، فألقى الله في قلبه أن يقتل منهم على ذلك الدم حتى يسكن، فقتل منهم سبعين ألفاً حتى سكن الدّم.
وقال السّدّيّ نحو هذا، غير أنّّ قال: أراد الملك أن يتزوّج بنت امرأة له، فنهاه يحيى عن ذلك، فطلبت المرأة من الملك قتل يحيى، فأرسل إليه فقتله وأحضر رأسه في طست وهو يقول له: لا تحلّ لك، فبقي دمه يغلي، فطرح عليه تراب حتى بلغ سور المدينة، فلم يسكن الدم، فسلّط الله عليهم بخت نصّر في جمع عظيم فحصرهم فلم يظفر بهم، فأراد الرجوع فأتته امرأة من بني اسرائيل فقالت: بلغني أنك تريد العود قال: نعم، قد طال المقام وجاع الناس وقلّت الميرة بهم وضاف عليهم، فقالت: إن فتحتُ لك المدينة أتقتل من آمرك بقتله وتكف إذا أمرتك؟ قال: نعم، قالت: اقسم جندك أربعة أقسام على نواحي المدينة، ثم ارفعوا أيديكم إلى السماء وقولوا: اللهمّ إنّا نستفتحك على دم يحيى بن زكرياء، ففعلوا، فخرب سور المدينة، فدخلوها، فأمرتهم العجوز أن يقتلوا علي دم يحيى بن زكرياء حتى يسكن، فلم يزل يقتل حتى قتل سبعين ألفاً وسكن الدم، فأمرته بالكفّ، وكفّ.
وخرّب بيت المقدس، وزمر أن تُلقى فيه الجيف، وعاد ومعه دانيال وغيره من وجوه بني اسرائيل، منهم عزريا وميشائيل ورأس الجالوت، فكان دانيال أكرم النّاس عليه، فحسدهم المجوس وسعوا بهم إلى بخت نصّر، وذكر نحو ما تقدّم من إلقائهم إلى السبع ونزول الملك عليهم ومسخ بخت نصّر ومقامه في الوحش سبع سنين.
وهذا القول وما لم نذكره من الروايات من أنّ بخت نصّر هو الذي خرّب بيت المقدس وقتل بني اسرائيل عدن قتلهم يحيى بن زكرياء باطل عند أهل السّير والتاريخ وأهل العلم بأمور الماضين، وذلك أنهم أجمعين مجمعون على أنّ بخت نصّر غزا بني اسرائيل عند قتلهم نبيّهم شعيا في عهد إرميا بن حلقيا، وبين عهد إرميا وقتل يحيى أربعمائة سنة وإحدى وستّون سنة عند اليهود والنصارى، ويذكرون أن ذلك في كتبهم وأسفارهم مبين، وتوافقهم المجوس في مدّة غزو بخت نصّر بني اسرائيل إلى موت الإسكندر، وتخالفهم في مدّة ما بين موت الاسكندر ومولد يحيى، فيزعمون أنّ مدّة ذلك كانت إحدى وخمسين سنة.
وأما ابن اسحاق فإنّه قال: الحقّ أن بني اسرائيل عمروا بيت المقدس بعد مرجعهم من بابل وكثروا ثمّ عادوا يحدثون الأحداث ويعود الله سبحانه عليهم ويبعث فيهم الرسل، ففريقاً يكذبّون وفريقاً يقتلون، حتى كان آخر من بعث الله فيهم زكرياء وابنه يحيى وعيسى بن مريم، عليهم السلام، فتلوا يحيى وزكرياء، فابتعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له جودرس، فسار إليهم حتى دخل عليهم الشام، فلمّا دخل عليهم بيت المقدس قال لقائد عظيم من عسكره اسمه نبوزاذان، وهو صاحب الفيل: إني كنت حلفت لئن أنا ظفرت ببني إسرائيل لأقتلنّهم حتى يسيل دماؤهم في وسط عسكري إلى أن لا أجد من أقتله؛ وأمره أن يدخل المدينة ويقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، فدخل نبوزاذان المدينة فأقام في المدينة التي يقربون فيها فربانهم، فوجد فيها دماً يغلي، فقال: يا بني اسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي؟ فقالوا: هذا دم قربان لنا لم يُقبل فلذلك هو يغلي.
فقال: ما صدقتموني الخبر فقالوا: إنه قد انقطع منّا الملك والنبوة فلذلك لم يقبل منا، فذبح منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلاً من رؤوسهم، فلم يهدأ، فأمر بسبعمائة من علمائهم فذُبحوا على الدم، فلم يهدأ، فلمّا رأى الدّم لا يبرد قال لهم: يا بني اسرائيل اصدقوني واصبروا على أمر ربّكم، فقد طال ما ملكتم في الأرض تفعلون ما شئتم، قبل أن لا أدع منكم نافخ نار أنثى ولا ذكراً إلا قتلته.
فلمّا رأوا الجهد وشدّة القتل صدقوه الخبر وقالوا: هذا دم نبي كان ينهانا عن كثير مما يسخط الله ويخبرنا بخبركم، فلم نصدّقه وقتلناه فهذا دمه، فقال: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكرياء، قال: الآن صدقتموني، لمثل هذا انتقم ربّكم منكم، وخرّ ساجداً وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من ها هنا من جيش جودرس، ففعلوا، وخلا في بني اسرائيل ثمّ قال للدّم: يا يحيى قد علم ربيّ وربّك ما قد أصاب قومك من زجلك وما قُتل منهم، فاهدأ بإذن الله قبل أن لا يبقى من قومك أحد، فسكن الدمُ، ورفع نبوزاذان القتل، وقال: آمنتُ بما آمنت به بنو اسرائيل وصدّقت به وأيقنت أنّه لا ربّ غيره، ثمّ قال لبني اسرائيل: إنّ جودرس أمرني أن أقتل فيكم حتى تسيل دماؤكم في عسكره، ولست أستطيع أن أعصيه، قالوا: افعل، فأمرهم أن يحفروا حفيرة، وأمر بالخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل فذبحها حتى كثر الدّم وأجرى عليه ماء، فسال الدّم في العسكر، فأمر الدم بالقتلى الذين كان قتلهم، فألقوا فوق المواشي، فلمّا نظر جودرس إلى الدم قد بغل عسكره أرسل إلى نبوزاذان: أن ارفع القتل عنهم فقد انتقمت منهم بما فعلوا.
وهي الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني اسرائيل، يقول الله تعالى لنبيّه محمد، صلى الله عليه وسلم: {وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين ولتعلنّ علوّاً كبيراً فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً ثمَّ رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرةٍ وليتبروا ما علوا تتبيراً عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنّم للكافرين حصيراً} الاسراء: 4- 8، و: {عسى} وعدٌ من الله حقّ.
وكانت الوقعة الأولى بخت نصّر وجنوده، ثم ردّ الله سبحانه لهم الكرّة، ثم كانت الوقعة الأخيرة جودرس وجنوده، وكانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم وقتل رجالهم وسبْي ذراريهم ونسائهم، يقول الله تعالى: {وليتبِّروا ما علوا تتبيراً}.
وزعم بعضُ أهل العلم أنّ قتل يحيى كان أيّام أردشير بن بابك، وقيل: كان قتله قبل رفع المسيح، عليه السلام، بسنة ونصف؛ والله أعلم.

.ذكر قتل زكريا:

لما قُتل يحيى وسمع أبوه بقتله فرّ هارباً فدخل بستاناً عند بيت المقدس فيه أشجار، فأرسل الملك في طلبه، فمرّ زكرياء بالشجرة، فنادته: هلمّ إليّ يا نبيّ الله فلمّا أتاها انشقّت فدخلها، فانطبقت عليه وبقي في وسطها، فأتى عدوّا الله إبليس فأخذ هدب ردائه فأخرجه من الشجرة ليصدّقوه إذا أخبرهم، ثمّ لقي الطلب فأخبرهم، فقال لهم: ما تريدون؟ فقالوا: نلتمس زكرياء، فقال: إنّه سحر هذه الشجرة فانشقت له فدخلها، قالوا: لا نصدّقك قال: فإنّ لي علامة تصدّقوني بها؛ فأراهم طرف ردائه، فأخذوا الفؤوس وقطعوا الشجرة باثنتين وشقّوها بالمنشار، فمات زكرياء فيها، فسلّط الله عليهم أخبث أهل الأرض فانتقم به منهم.
وقيل: إنّ السبب في قتله أنّ إبليس جاء إلى مجالس بني اسرائيل فقذف زكريّاء بمريم وقال لهم: ما أحبلها غيره، وهو الذي كان يدخل عليها، فطلبوه فهرب، وذكر من دخوله الشجرة نحو ما تقدّم.

.ذكر ولادة المسيح عليه السلام ونبوته إلى آخر أمره:

كانت ولادة المسيح أيّام ملوك الطوائف، قالت المجوس: كان ذلك بعد خمس وستّين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، وبعد إحدى وخمسين سنة مضت من ملك الأشكانيّين، وقالت النصارى: إنّ ولادته كانت لمضيّ ثلاثمائة وثلاث وستّين سنة من وقت غلبة الإسكندر على أرض بابل، وزعموا أنّ مولد يحيى كان قبل مولد المسيح بستّة أشهر، وأنّ مريم، عليها السلام، حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: عشرون، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياماً، وأن مريم عشات بعده ستّ سنين، فكان جميع عمرها إحدى وخمسين سنة، وأن يحيى قُتل قبل أن يرفع المسيح، وأتت المسيح النبوّة والرسالة وعمره ثلاثون سنة.
وقد ذكرنا حال مريم في خدمة الكنيسة، وكانت هي وابن عمّها يوسف بن يعقوب بن ماثان النجّار يليان خدمة الكنيسة، وكان يوسف حكيماً نجّاراً يعمل بيديه ويتصدّق بذلك، وقالت النصارى: إنّ مريم كان قد تزوّجها يوسف ابن عمّها إلا أنّه لم يقربها إلاّ بعد رفع المسيح، والله أعلم.
وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف ابن عمّها أخذ كلّ واحد منهما قُلّته وانطلق إلى المغارة التي فيها الماء يستعذبان منه ثمّ يرجعان إلى الكنيسة، فلمّا كان اليوم الذي لقيها فيه جبرائيل نفد ماؤها فقالت ليوسف ليذهب معها إلى الماء، فقال: عندي من الماء ما يكفيني إلى غد، فأخذت قلّتها وانطلقت وحدها حتى دخلت المغارة، فوجدت جبرائيل قد مثله الله {لها بشراً سويّاً} مريم: 17، فقال لها: يا مريم إنّ الله قد بعثني إليك {لأهب لك غُلاماً زكيّاً} مريم: 19، {قالت إني أعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّاً} مريم: 18 أي مطيعاً لله، وقيل: هو اسم رجل بعينه، وتحسبه رجلاً، {قال إنما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً قالت أنّى يكون لي غلامٌ ولم يمسسني بشرٌ ولم أك بغيّاً- أي زانية- قال كذلك قال ربّك} إلى قوله: {أمراً مقضياً} مريم: 19- 21.
فلمّا قال ذلك استسلمت لقضاء الله، فنفخ في جيب درعها ثمّ انصرف عنها وقد حملت بالمسيح، وملأت قلّتها وعادت، وكان لا يُعلم في أهل زمانها أعبد منها ومن ابن عمّها يوسف النجّار، وكان معها، وهو أوّل من أنكر حملها، فلمّا رأى الذي بها استعظمه ولم يدرِ على ماذا يضع ذلك منها، فإذا أراد يتّهمها ذكر صلاحها وأنّها لم تغبْ عنه ساعة قطّ، وإذا أراد يبرئها رأى الذي بها، فلمّا اشتدّ ذلك عليه كلّمها فكان أوّل كلامه لها أن قال لها: إنّه قد وقع من أمرك شيء قد حرصتُ على أن أميته وأكتمه فغلبني، فقالت: قلْ قولاً جميلاً، فقال: حدّثيني هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم، قال: فهل ينبت شجر بغير غيث يصيبه؟ قالت: نعم، قال: فهل يكون ولد بغير ذكر؟ قالت له: نعم، ألم تعلم أنّ الله أنبت الزّرع يوم خلقه بغير بذر ألم تعلم أن الله خلق الشجر من غير مطر وأنّّه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعدما خلق كلّ واحد منهما وحده أو تقول لن يقدر الله على أن ينبت حتى يستعين بالبذر والمطر قال يوسف: لا أقول هكذا ولكنّي أقول إنّ الله يقدر على ما يشاء، إنّما يقول لذلك كن فيكون، قالت له: ألم تعلم أنّ الله خلق آدم وحوّاء من غير ذكر ولا أنثى قال: بلى، فلمّا قالت له ذلك وقع في نفسه أنّ الذي بها شيء من الله لا يسعه أن يسألها عنه لما رأى من كتمانها له.
وقيل: إنها خرجت إلى جانب الحجرات لحيض أصابها فاتخذت من دونهم حجاباً من الجدران، فلمّا طهرت إذا برجل معها، وذكر الآيات، فلمّا حملت أتتها خالتُها امرأة زكرياء ليلة تزورها، فلمّا فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكرياء: إني حبلى، فقالت لها مريم: وأنا أيضاً حبلى، قالت امرأة زكرياء: فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك.
وولدت امرأة زكرياء يحيى، وقد اختلف في مدّة حملها، فقيل: تسعة أشهر، وهو قول النصارى، وقيل: ثمانية أشهر، فكان ذلك آية أخرى لأنّه لم يعش مولود لثمانية أشهر غيره، وقيل: ستة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: ساعة واحدة، وهو أشبه بظاهر القرآن العزيز لقوله تعالى: {فحملته فانتبذت به مكاناً قصيّاً} مريم: 22؛ عقبه بالفاء.
فلمّا أحست مريم خرجت إلى جانب المحراب الشرقيّ فأتت أقصاه {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت} وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس- {يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً} مريم: 23 يعني نسي ذكري وأثري فلا يرى لي أثر ولا عين، قالت مريم: كنت إذا خلوت حدّثني عيسى وحدّثته، فإذا كان عندنا إنسان سمعت تسبيحه في بطني، {فناداها} جبرائيل {من تحتها}- أي من أسفل الجبل- {ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّاً} مريم: 24، وهو النهر الصغير، أجراه تحتها، فمن قرأ: من تحتها، بكسر الميم، جعل المنادي جبرائيل، ومن فتحها قال إنّه عيسى، أنطقه الله، {وهزّي إليك بجذع النخلة} مريم: 25، كان جذعاً مقطوعاً فهزّته فإذا هو نخلة، وقيل: كان مقطوعاً فلمّا أجهدها الطلق احتضنته فاستقام واخضرّ وأرطب، فقيل لها: {وهزي إليك بجذع النخلة} فهزّته فتساقط الرطب فقال لها: {فكلي واشربي وقرّي عيناً فإمّا ترينّ من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرّحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسيّاً} مريم: 26، وكان من صام في ذلك الزمان لا يتكلم حتى يمسي.
فلمّا ولدته ذهب إبليس فأخبر بني إسرائيل أنّ مريم قد ولدت، فأقبلوا يشتدون بدعوتها، {فأتت به قومها تحمله} مريم: 27.
وقيل: إنّ يوسف النجّار تركها في مغارة أربعين يوماً ثمّ جاء بها إلى أهلها، فلمّا رأوها قالوا لها: {يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيّاً} مريم: 27- 28 فما بالك أنت؟ وكانت من نسل هارون أخي موسى، كذا قيل.
قلت: إنها ليست من نسل هارون إنما هي من سبط يهوذا بن يعقوب من نسل سليمان بن داود، وإنما كانوا يدعون بالصالحين، وهارون من ولد لاوي بن يعقوب.
قالت لهم ما زمرها الله به، فلمّا أرادوها بعد ذلك على الكلام {أشارت إليه} فغضبوا وقالوا: لسخريّتها بنا أشدّ علينا من إنائها {قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبياً} مريم: 29، فتكلّم عيسى فقال: {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً} مريم: 30- 31، فكان أول ما تكلّم به العبودية ليكون أبلغ في الحجة على من يعتقد أنه إله.
وكان قومها قد أخذوا الحجارة ليرجموها، فلما تكلّم ابنها تركوها، ثمّ لم يتكلّم بعدها حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان، وقال بنو اسرائيل: ما أحبلها غير زكريّاء فإنّه هو الذي كان يدخل عليها ويخرج من عندها، فطلبوه ليقتلوه، ففرّ منه، ثمّ أدركوه فقتلوه.
وقيل في سبب قتله غير ذلك، وقد تقدّم ذكره.
وقيل: إنّه لما دنا نفاسها أوحى الله إليها: أن اخرجي من أرض قومك فإنهم إن ظفروا بك عيّروك وقتلوك وولدك، فاحتملها يوسف النجّار وسار بها إلى أرض مصر، فلمّا وصلا إلى تخوم مصر أدركها المخاض، فلمّا وعضت وهي محزونة قيل لها: {لا تحزني} الآية إلى {إنسيّاً} فكان الرطب يتساقط عليها، وذلك في الشتاء، وأصبحت الأصنام منكوسة على رؤوسها، فوزعت الشياطين فجاؤوا إلى إبليس، فلمّا رأى جماعتهم سألهم فأخبروه، فقال: قد حدث في الأرض حادث، فطار عند ذلك وغاب عنهم فمرّ بالمكان الذي ولد فيه عيسى فرأى الملائكة محدقين به، فعلم أنّ الحدث فيه، ولم تمكنه الملائكة من الدنّو من عيسى، فعاد إلى أصحابه وأعلمهم بذلك وقال لهم: ما ولدت امرأة إلاّ وأنا حاضر، وإنّي لأرجو أن أُضلّ به أكثر ممّن يهتدي.
واحتملته مريم إلى أرض مصر فمكثت اثنتي عشرة سنة تكتمه من النّاس، فكانت تلتقط السنبل والمهد في منكبيها.
قلتُ: والقول الأوّل في ولادته بأرض قومها للقرآن أصحّ لقول الله تعالى: {فأتت به قومها تحمله} مريم: 27، وقوله: {كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً} مريم: 29.
وقيل إن مريم حملت المسيح إلى مصر بعد ولادته ومعها يوسف النجّار، وهي الربوة التي ذكرها الله تعالى، وقيل: الربوة دمشق، وقيل: بيت المقدس، وقيل غير ذلك، فكان سبب ذلك الخوف من ملك بني اسرائيل، وكان من الروم، واسمه هيرودس، فإنّ اليهود أغروه بقتله، فساروا إلى مصر وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة إلى أن مات ذلك الملك، وعادوا إلى الشام، وقيل: إنّ هيرودس لم يرد قتله ولم يسمع به إلاّ بعد رفعه، وإنما خافوا اليهود عليه، والله أعمل.